إبداع في التنظير النقدي وخلل في التدبير العملي؟
نشر بتاريخ: 2025/12/19 (آخر تحديث: 2025/12/19 الساعة: 23:17)

لا أهتم كثيراً بالمهووسين بالسوشيال ميديا من عرب وفلسطينيين الذين يتطاولون على الشعب الفلسطيني وحركته الوطنية وقيادته لأن هدف وثمن هؤلاء معروف ،ولكن أتوقف عند الملاحظات والانتقادات الصادرة عن شخصيات فكرية وأكاديمية ووطنية مرموقة ،ليس لأنني أتفق مع كل ما يقولون ولكن لأن النظام السياسي الفلسطيني يحتاج بالفعل إلى إصلاح جاد ولا يمكن المراهنة أن بقاء الأمور على حالها سيؤدي إلى إصلاح تلقائي أو أن مأزق وفشل مشروع حركة حماس يعني نجاح مشروع فتح والمنظمة ،وقد كتبنا مطولاً حول الموضوع ومارسنا بدورنا النقد لدرجة استفزت بعض قيادات حركة فتح والمنظمة.

من بين سيل الانتقادات الموجهة أخيراً للسلطة والمنظمة وحركة فتح سأتوقف عند الجدل الذي أثارة انتقاد المفكر الفلسطيني رشيد الخالدي للسلطة والنظام السياسي الفلسطيني، وهو ما يذكرنا بما جرى مع ادوارد سعيد عندما انتقد اتفاقية أوسلو وبكثير من الحالات الشبيهة حتى من داخل الحالة الوطنية وحركة فتح أمثال المفكر الفتحاوي خالد الحسن والقيادي فاروق قدومي (أبو اللطف) رحمهم الله، وكثيرون غيرهم من الكبار الذين عارضوا المنظمة ونهجها والسلطة وسلوكها.

هذا الجدل القديم /الجديد، وبعد أن دخل على خطه مثقفون وكُتاب من الطبقة السياسية وخارجها، أصبح يثير موضوعاً أشمل، يتجاوز الخلافات السياسية العادية والتي تعودنا عليها وتندرج في سياق حرية الرأي والتعبير أو فرضتها جغرافيا الشتات الفلسطيني، إلى أزمة تؤثر على الهوية والثقافة الوطنية وتشكك بتاريخنا الوطني النضالي، كما تستحضر العلاقة بين المبدعين المتميزين والمتفوقين في كافة المجالات الأكاديمية والعلمية وفي مجال المال والاستثمارات عبر العالم، مع القيادة والنظام السياسي؟ والنفور وشبه القطيعة ما بين هذه الكفاءات والنخب سواء داخل فلسطين أو خارجها مع النظام السياسي الرسمي.

ونتساءل: لماذا العقل السياسي لهذه النخب، وخصوصاً السياسية المعارضة للنظام السياسي الرسمي، عقل تشخيصي تحليلي تسود غالبيته النقد والرفض للواقع، ولكن يفتقر إلى إبداع حلول عملية للقضايا التي يشخصها، والتي يمكن أن تساعد على إخراج القضية الوطنية من مأزقها؟

مثلاً هل موقف المفكر رشيد الخالدي، وغيره من الشخصيات التي لا يشكك أحد في حرصها على المصلحة الوطنية والذين يعارضون السلطة والقيادة واتفاق أوسلو، مبني على معارضتهم مبدأ التسوية السياسية مع إسرائيل؟ أم يؤيدوه ولكنهم معارضون للرئيس أبو مازن والقيادة والسلطة لطريقة ادارتهم لعملية التسوية وتدبير أمور السلطة؟

إن كانت مواقفهم معارضة لنهج التسوية السياسية فهل البديل في نظرهم هو المقاومة المسلحة؟ إن كان قصدهم مبدأ مقاومة الاحتلال فنحن نتفق معهم في مبدأ وحق مقاومة الاحتلال، ولكن كيف؟ ومتى؟ وضمن أي استراتيجية، وفي إطار أي تحالفات؟ أم إنهم مع المقاومة كما تمارسها حركة حماس وفصائل المقاومة في قطاع غزة، وقد رأينا نتائج هذه المقاومة في قطاع غزة وحتى في الضفة الغربية، والمواقف الرسمية العربية والإقليمية والدولية المعارضة في غالبيتها لحركات المقاومة المسلحة في فلسطين؟

إن كان رشيد الخالدي وكل من ينتقدون السلطة والقيادة، ونحن أيضاً ننتقدهم ولا نبرئهم من المسؤولية عما آلت إليه الأمور، فما هو البديل عن السلطة وقيادتها؟ وهل مجرد المطالبة بإجراء انتخابات عامة يحل المشكلة؟

لقد سبق وأن كتبنا مقالاً في يناير 2016 بعنوان :(نعم لحل السلطة ولكن ما هو البديل) واقترحنا فيه إعادة استنهاض منظمة التحرير لتملأ فراغ غياب السلطة في حالة تلاشيها لأي سبب، وكررنا الفكرة حديثاً بعد تكرار تصريحات اليمين الصهيوني خلال حرب الإبادة بإنهاء وجود السلطة الفلسطينية ،وتفاءلنا عندما أصدر الرئيس مرسومه في يوليوز الماضي بإجراء انتخابات للمجلس الوطني الفلسطيني قي نهاية العام الجاري، ولكن سرعان تبخرت الآمال بعد صدور بيان عن رئاسة المجلس الوطني تضع شروطاً ومحددات للانتخابات مما يجعلها شبه مستحيلة حالياً.

إن كان الحل اللجوء للانتخابات العامة على كافة المستويات في المنظمة والسلطة وهو مطلب كل الشعب تقريباً، فهل قرار الانتخابات بيد الفلسطينيين؟ أم هو قرار إسرائيلي واقليمي أيضاً؟ وفي حالة استبعاد الانتخابات فما هو البديل الذي يقترحه المفكر الخالدي وكل معارضي منظمة التحرير والسلطة والقيادة؟

بتبسيط متناهي للأمور يدعو البعض للوحدة الوطنية، ومع أن لا أحد ضد الوحدة الوطنية بل هي مطلب كل الشعب، ولكن ما المقصود بالوحدة الوطنية، هذا المصطلح الملتبس والمراوغ؟ ومن يعيق تحقيقها؟ هل هو الشعب؟ هل هم الذين ينتقدون الأحزاب والطبقة السياسية؟ أم الأحزاب وقياداتها؟ أم هناك عقبات وتحديات وممانعات خارجية تمتع تحققها؟

لقد سبق وأن كتبنا مطولاً أن الخلل ليس في فكرة السلام والبحث عن تسوية سياسية بل الخلل في غياب توافق وطني واستراتيجية وطنية حول التسوية وليس كل من فكر بالتسوية السياسية خائن للوطن، وهذا لا يعني أننا مع طريقة تعامل القيادة والطبقة السياسية مع نهج التسوية وطريقة تدبيرها للشأن الفلسطيني الداخلي.

وكتبنا أيضاً أن الخلل ليس في مبدأ مقاومة الاحتلال بل في غياب استراتيجية وطنية للمقاومة وكيفية ممارسة حماس لها، ولا يجوز اتهام كل من يقاوم الاحتلال بأنه يخدم أجندة أجنبية أو من جماعة إيران الخ كما لا يجوز اتهام كل من ينتقد حركة حماس أنه معادي للمقاومة أو من عملاء الاحتلال.

فلماذا يفشل الفلسطينيون في التوافق على استراتيجية وطنية لإنجاز ولو الحد الأدنى من حقوقهم الوطنية؟ هل هو عقم في التفكير السياسي وهناك آلاف المفكرين والأكاديميين منتشرين في الجامعات ومراكز الأبحاث عبر العالم؟ أم هو جهل في التدبير العملياتي والتعامل مع الواقع؟ أم نتيجة التدخلات الخارجية في شؤونهم الداخلية وهذه لا تكون إلا نتيجة خلل داخلي عندهم؟ أم لفقدان الطبقة السياسية الحاكمة ثقتها بعدالة القضية وعدم ثقتها حتى بالشعب؟