غزة.. شيء من الخوف " زواج عتريس من فؤادة باطل"
نشر بتاريخ: 2025/12/25 (آخر تحديث: 2025/12/25 الساعة: 18:02)

شيء من الخوف يعد واحداً من أهم أفلام السينما المصرية، عن قصة ثروت أباظة، يتجاوز الفيلم إطار الحكاية الريفية ليقدم إسقاطاً سياسياً وإنسانياً عميقاً عن الخوف والاستبداد، من خلال عصابة عتريس كنموذج للطاغية المحلي الذي يفرض سطوته على قرية الدهاشنة عبر عصابة مسلحة تحول الخوف إلى أداة حكم لتمثل سلطة غير شرعية تحتمي بالقوة، والقرية تمثل مجتمعاً يصمت تحت الرعب، لتخلص رسالة الفيلم إلى أن الخوف هو السلاح الأخطر، وأن كسره يسبق دائماً سقوط الطاغية، وهو ما جعل العمل من الفيلم عمل كلاسيكي خالد.

في شيء من الخوف لا نكون أمام حكاية سينمائية عن قرية مصرية نائية فقط، بل أمام تشريح دقيق لمنطق حكم العصابة حين تحل القوة محل القانون، وحين يتحول الخوف إلى أداة إدارة يومية للمجتمع. عتريس ليس مجرد بلطجي متجبر، بل رأس منظومة متكاملة تعيش على السلب والنهب وفرض الخاوات والأتاوات، وتعيد إنتاج سلطتها عبر القتل والترهيب وإذلال الناس. الفيلم هنا لا يروي قصة فرد، بل يقدّم نموذجاً قابلاً للتكرار في كل زمان ومكان.

في قرية الدهاشنة، لا يُحكم الناس بالقانون ولا بالرضا، بل بمنطق الإتاوة. العصابة تأخذ من الفلاحين محصولهم، وتقتطع من أرزاقهم، وتفرض عليهم دفع ثمن بقائهم أحياء. من يدفع ينجو مؤقتاً، ومن يرفض يُكسر أو يُقتل ليكون عبرة. القتل ليس انفعالاً ولا خطأً، بل سياسةً مدروسةً لإدامة الخوف. هكذا يتحول العنف إلى اقتصادٍ، ويغدو الرعب مورداً دائماً تعيش عليه العصابة.

هذا النموذج الرمزي، بكل قسوته، يفرض نفسه بقوة على واقع غزة اليوم. هناك، تسيطر عصابة من الملثمين باسم حماس، تمارس أنماطاً سلطوية لا تختلف في جوهرها عن نموذج عتريس. السلب والنهب يأخذان أشكالاً متعددة، من السيطرة على الموارد والمساعدات، إلى فرض الأتاوات والخاوات تحت عناوين أمنية أو تنظيمية. مما يزيد الفقر، الناتج أصلاً عن الاحتلال والحصار، ولا يُواجَه بسياسات حماية اجتماعية، بل يُستثمر لتعزيز السيطرة، تماماً كما كان عتريس يستثمر خوف أهل الدهاشنة وجوعهم.

ما دام الملثم حاضراً في تفاصيل حياة المواطن، لا يمكن الحديث عن أمانٍ. في الفيلم، كان وجود رجال عتريس في الطرقات كافياً لإسكات القرية كلها. وفي غزة، صار اللثام جزءاً من المشهد اليومي. اللثام في الشوارع ليس رمزاً للمقاومة، بل علامةً صارخةً على غياب القانون وانعدام الأمان. هو إعلان دائم بأن العنف ممكن في أي لحظة، وأن من يحمل السلاح لا يُسأل ولا يُحاسَب.

الملثم ليس مشروعاً للبناء، ولا شريكاً في ترميم الشروخ العميقة التي أحدثتها الحرب. هو آلةٌ مستعدة للقتل، يدٌ متوترة متأهبة للضغط على الزناد لأتفه الأسباب. هذه اليد لا تبني مدرسة، ولا تعيد إعمار بيت، ولا تصلح ما دمرته سنوات القصف والحصار، بل تضيف كسراً جديداً إلى جسد المجتمع المنهك. في الدهاشنة، كانت العصابة تكسر الناس قبل أن تسرقهم. وفي غزة، يُكسر الإنسان معنوياً ونفسياً قبل أن يُسلب حقه في السؤال والاعتراض.

راعي القانون لا يحتاج إلى لثام. من يحمي الناس يقف بوجه مكشوف، لأنه يستمد شرعيته من المجتمع، لا من الرعب. اللثام، في جوهره، حاجة المجرم، وسيلة للإفلات من العقاب، وغطاء لارتكاب ما يشاء من تجاوزات واعتداءات. في الفيلم، كان رجال عتريس بلا وجوه سياسية أو أخلاقية، مجرد قوة عارية. وفي غزة، يتجسد اللثام حرفياً، ليمنح العصابة حصانة زائفة باسم المقاومة، ويحول أي مساءلة إلى جريمة.

القتل في الحالتين ليس حدثاً استثنائياً. في الدهاشنة، يقتل المعترض ليصمت الآخرون. وفي غزة، يقمع المختلف، يختطف، يُقتل أو يصفى معنوياً، ليبقى الخوف الحاكم الفعلي. ليس ضرورياً أن يقتل الجميع، يكفي أن يكسر بعضهم ليعيش الباقون صمتاً. الخوف هنا ليس نتيجة جانبية للحرب، بل أداة حكم داخلية تستخدم للسيطرة على المجتمع ومنعه من مساءلة من يحتكر السلاح والقرار.

السلاح الذي يفترض أن يوجه نحو العدو الخارجي، اليو فقط يستخدم لقمع الداخل وإخضاعه. القرارات المصيرية، حرباً أو تهدئة، حياة أو موتاً، تفرض على مجتمع كامل بلا تفويض ولا مشاركة. كما فرض عتريس زواجه القسري من فؤادة ليؤكد سيادته على الجسد والقرار، تفرض اليوم خيارات مصيرية على غزة باسم المقاومة، من دون أي اعتبار لإرادة الناس أو كلفة هذه الخيارات على حياتهم ومستقبلهم.

الفارق الوحيد بين عصابة عتريس وعصابة الملثمين في غزة هو الغطاء الخطابي. عتريس لم يحتج إلى تبرير أخلاقي، القوة وحدها كانت كافية. أما في غزة، فيستخدم خطاب المقاومة لتوفير حصانة أخلاقية زائفة. باسم القضية العادلة، تصادر الحقوق. باسم الصمود، يمنع السؤال. وباسم العدو الخارجي، يبرر البطش الداخلي. هكذا تتحول المقاومة من فعل تحرري إلى عصابة مغلقة، ومن مشروع حماية إلى نظام إتاوات، يعيش على السلب والنهب والخوف.

في الفيلم، كان السلب والنهب وسيلة لإفقار القرية وإبقائها تحت السيطرة. وفي غزة، تتضاعف المأساة لأن التجويع مفروض أصلاً من الاحتلال، لكن العصابة الداخلية تستثمر فيه. بدل أن تكون درعاً للناس، تتحول وسيطاً قمعياً، يقتطع من معاناة المجتمع ليعزز سلطته. هكذا يجد المواطن نفسه محاصراً بين قصف وقتل خارجي ونهب وسلب وقتل داخلي، بين احتلال عسكري واستبداد مسلح يتخفى بشعار المقاومة.

من هنا يصبح أي حديث عن مستقبل غزة محض هراء ما دامت ظاهرة الملثمين قائمة. لا معنى للتخطيط، ولا جدوى من الشعارات، ولا قيمة لخطط الإعمار، ما دام السلاح المنفلت يحكم الشارع. وجود الملثم يعني أننا في فضاء أقرب إلى الغابة، حيث تستطيع أي مجموعة مسلحة أن تفعل ما تشاء، مستندة إلى لثام يعصمها من المساءلة باسم المقاومة. في هذا المناخ، لا صمود يبقى، لا مستقبل يبنى، ولا مجتمع يتعافى، وهو المناخ المطلوب احتلالياً للتهجير الطوعي.

الفيلم يقدم درسه الأعمق، الطغيان لا يعيش إلا بالخوف، والخوف لا يسقط إلا حين يكسر من الداخل. في لحظة رفض فؤادة، لم يسقط عتريس فوراً، لكن البناء كله اهتز. الرسالة واضحة، كسر الخوف يسبق سقوط الطاغية. غير أن مأساة غزة أن كلفة كسر الخوف باهظة، لأن الاحتلال حاضر، ويستخدم كفزاعة أخلاقية لإدامة الاستبداد الداخلي، وابتزاز الناس بين خيارين زائفين، الصمت أو الخيانة.

غزة اليوم تعيش ضياعاً متواصلاً، تحت إصرار على حكم مسخ، يرفض تحمل أي مسؤولية حقيقية تجاه حياة الناس، ويكتفي بإدارة الخراب بالسلاح واللثام. لا مساءلة، لا محاسبة، لا اعتراف بالأخطاء، فقط إدارة دائمة للخوف، وسوق مفتوح للخاوات والإتاوات باسم المقاومة.

كما عبر الفيلم دون خطب مباشرة، العصابة التي تعيش على السلب لا تحرر، والسلاح الذي يوجه إلى صدور الناس لا يصنع كرامة. ما دام الملثم حاكماً، يبقى الأمان حلماً مؤجلاً، ويبقى المجتمع أسيراً بين احتلال خارجي واستبداد داخلي، يتغذيان معاً من خوف الناس وصمتهم. وفي هذا الواقع، لا يكون السؤال كيف نحرر الأرض فقط، بل كيف نحرر الإنسان من الخوف، لأن أي مقاومة لا تبدأ بتحرير الإنسان من فعل العصابات، تنتهي بإعادة إنتاج عتريس، باسم مختلف، ولثام أكثر قتامة… وتبقى صرخة: "زواج عتريس من فؤادة باطل"