زمــن الإخــوان (٢ من ٢)
نشر بتاريخ: 2025/12/17 (آخر تحديث: 2025/12/17 الساعة: 17:36)

اهتم «الإخوان» بشكل خاص بالفتية والشباب، وبما أنه ليس أحب على هذه الفئة من اللعب والرياضة، فقد تم استقطابهم من خلال هذا الباب، ولكن، بعد إفهامهم أن الأندية الرياضية في البلد «فاسقة»، وتتبع مؤسسات غير إسلامية، وأنَّ متابعة الدوري، أو تشجيع فريق عالمي (من الكفار) أمر غير مستحَب شرعاً، لأن ذلك يلهي عن ذكر الله.. وطالما أن الرياضة سُنّة حميدة، يتوجب أن تكون في إطار الأندية والأنشطة التي ترعاها وتشرف عليها الجماعة.

من الأساليب التي كان يتبعها الإخوان: المخيمات الكشفية (في مراحل لاحقة صارت تنظم المخيمات الصيفية للطلبة)، حيث يخضع الفتيان لتربية صارمة على مدى أيام وليال، وكذلك الرحلات الترفيهية، والمبيت في مقرات الجماعة، لقيام الليل، وإلقاء دروس دينية وحزبية كانت تستمر حتى الصباح (هذا النشاط يسمّونه كتيبة ليلية)، وأيضاً زيارة المقابر ليلاً، وتذكر عذاب القبر، وهذه كلها نقاط ضعف عند الفتيان والشبان الصغار، من خلالها كان يتم تشريبهم الفكر الإخواني بهدوء، وتعويدهم على السمع والطاعة.

كنتُ في الثالثة عشرة من عمري، حين قررت الاشتراك في مخيم كشفي ستقيمه الجماعة في عطلة نصف السنة مدته أربعة أيام، في غور الأردن، رفضت والدتي بشدة اشتراكي، واعتقدتْ أنها برفضها أمنت جانبي، وأنني لن أعصيها، لكني استيقظت فجراً في إحدى ليالي كانون الثاني الباردة، وتسللت خارج البيت، واتجهت إلى مسجد صويلح حيث تجمع المشاركون قبل توجههم إلى المخيم، غبتُ أربعة أيام بلياليها عن البيت، والله وحده يعلم مدى القلق الذي انتاب أمي، لكنها امتنعت عن عقابي حين عدت سالماً.

بعدها بسنة، كنا في العشر الأواخر من رمضان معتكفين في المسجد، قادنا مسؤولنا التنظيمي في رحلة ليلية، خرجنا من مسجد عبد الرحمن بن عوف بعد منتصف الليل باتجاه الجبال المطلة على مخيم البقعة، جبال وعرة موحشة فيها العديد من الكهوف والمغارات، مشينا نحو ساعتين، ثم اختار الشيخ أحد الكهوف وطلب منا دخوله، كنا خمسة فتيان، تلونا دعاء الدخول للمناطق الخطرة: «باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء...»، ليحمينا من لدغات العقارب والأفاعي، ومن شر أي جني يسكن المغارة. جلسنا ملتصقين ببعضنا، نتلمس العتمة، وبدأ الشيخ يلقي عظته على مسامعنا، كانت الظلمة حالكة لدرجة أننا لم نرَ بعضنا، الشيخ يأمرنا بتقوى الله ومخافته، وبالسمع والطاعة، حين يسكت يلف الصمت المكان، فتسري في قلوبنا قشعريرة خشوع وخوف، وحين يعاود الكلام يُهيَّأ لنا أننا نسمع ملاكاً، أو شبحاً، أو جنياً.

الفنون بأشكالها كانت نقطة ضعف في المنهج الإخواني، فهي عندهم محرمة بأغلبها: الغناء، باستثناء الأناشيد الدينية، التمثيل باستثناء المسرحيات الدينية والتاريخية، الموسيقى بأنواعها باستثناء الدف، النحت، الرسم، التصوير، السينما.

كما كان الأدب نقطة ضعفهم؛ فالرواية يجب أن تكون وعظية، القصة يجب أن تخلو من الألفاظ الخادشة للحياء، الشعر يجب أن يصب في مصلحة الدعوة ودون خيال، أي نص إبداعي يجب أن يخلو من «الأيروسية»، ومن نقد الموروث الديني، الخيال مقيد بالنص الشرعي.

وهنا ما زلت أتذكر الحملات المحمومة التي نفذها الإخوان في صويلح ضد افتتاح سينما. كان يتم اختزال الموقف السلبي من الأدب والفنون بتعويضه بالأناشيد الدينية، وعروض المسرح الديني، وبالقصص الدينية على طريقة الوعظ والإرشاد. (حصل تطور وتغيير على ذلك في العقدين الأخيرين، وبعد انتشار وسائل التواصل الاجتماعي)، كذلك كان يتم حظر العديد من الألعاب التي كانت سائدة بين عموم الشباب (خاصة ألعاب الورق، وطاولة النرد)، والسماح بممارسة ألعاب أخرى مثل التنس والبلياردو، ولكن داخل الأندية التي كانت تتبع الجماعة. حتى نوعية الكتب، والروايات التي قد يقبل عليها الشبان، كانت تخضع للرقابة، ويتم استبعاد ما لا يتوافق مع فكرهم، ونهجهم. وبهذه الطرق، كان يتم احتواء الشباب، وضمان انضباطهم التنظيمي.

جرى كل ذلك إضافة إلى، وبالتزامن مع، ما كان يجري طبخه بهدوء في المدارس والجامعات.. فقد ظلت وزارة التربية والتعليم تحت هيمنة الإخوان، في تلك الأثناء كانت المناهج التعليمية والتربوية يتم إعدادها على أيديهم، بتروي وبراعة، حيث تم تضمين المفاهيم والأفكار والأيديولوجية الإخوانية بين السطور، حتى في كتب التاريخ والكيمياء، لتستقر في عقول وأفئدة الطلبة، على مدار سنوات، كان قطاف تلك الجهود الفوز الكاسح لمرشحي الإخوان في أول انتخابات نيابية جرت في الأردن (1989). وأوضح تجليات ذلك تجدها في آراء الشارع الأردني (بما في ذلك الفلسطينيون)، والتي تكاد تكون متطابقة، بنفس المفاهيم وأساليب التفكير، والتي يظهر فيها أثر الإخوان وأثر «الجزيرة»، وهي ظاهرة تكاد تكون مقتصرة على الأردن.

أما النتائج الأخطر، والتي ستظهر في الألفية الجديدة، فقد تمثلت في انتشار الفكر الوهابي السلفي المتشدد، ومن ثم ظهور الجماعات التكفيرية والانتحاريين الذين شاركوا في حروب أفغانستان، والعراق وسورية والشيشان. ولفهم الرابط بين كل ذلك، لنتذكر هجرة عبد الله عزام إلى أفغانستان، وتقديم نواب الإخوان واجب العزاء في «الزرقاوي».

كل ما سبق يؤكد أن النتيجة الأخطر لنشوء تنظيم الإخوان في عشرينيات القرن الماضي في مصر (البعض يعتبرها هدفاً) هو التصدي لحركة النهضة العربية التقدمية التي قادها مفكرون إسلاميون تنويريون مثل الشيخ محمد عبده والكواكبي وعلي عبد الرازق، ومفكرون علمانيون مثل طه حسين وقاسم أمين وأحمد لطفي السيد وغيرهم، واستبدالها بفكر ديني سلفي، وامتصاص التحولات الناجمة عن ثورة 1919 وبدء تشكّل إرهاصات التغيير، ومحاولات مقاومة الانتداب البريطاني لصالح التركيز على العمل الخيري والدعوي من خلال جماعة دينية.

في المسألة السياسية، كان يتم إفهامنا أن الأنظمة العربية وكافة مؤسساتها أنظمة كافرة وجاهلية (رغم أن الإخوان في الأردن والمغرب كانوا على حلف وثيق مع الدولة).

تكاد تتكرر هذه التجربة بتفاصيلها في أغلب البلدان التي نشط فيها الإخوان، واستمرت عدة عقود، بيد أن الحال بدأ يتغير منذ أكثر من عقد، وفي غير صالح الإخوان.. فقد أخذ مشروعهم السياسي والميليشياوي يتراجع ويتقهقر، وكانت آخر قلاعه غزة.

ربما في ذكرى المئوية الأولى للجماعة تكون قد وصلت نهايتها.