سجنٌ مُعلَّق تحيطه التماسيح.. بن غفير وسياسة التوحّش في التعامل مع قضية الأسرى
نشر بتاريخ: 2025/12/27 (آخر تحديث: 2025/12/27 الساعة: 19:48)

في لحظةٍ تنكشف فيها الأقنعة، لا تعود السياسة لغة مصالح ولا توازنات، بل تتحول إلى مرآةٍ فاضحة تعكس الجوهر الحقيقي للسلطة. وحين يخرج وزير في حكومةٍ تدّعي الديمقراطية ليصرّح علنًا عن “سجنٍ مُعلّق تحيطه التماسيح”، فنحن لا نكون أمام زلّة لسان أو استعارة لغوية عابرة، بل أمام عقيدةٍ كاملة تُصاغ بالكلمات قبل أن تُمارَس بالأدوات.

 

تصريح إيتمار بن غفير لم يكن طارئًا أو معزولًا عن السياق، بل جاء منسجمًا تمامًا مع تاريخٍ طويل من التحريض، ونزع الإنسانية، وتكريس منطق الإبادة الرمزية بحق الفلسطيني، وبخاصة الأسير الفلسطيني، الذي لم يعد في خطاب اليمين الإسرائيلي المتطرف إنسانًا له حقوق، بل “خطرًا مؤجلًا” يجب إخضاعه بالرعب لا بالقانون، وبالتنكيل لا بالمحاسبة القضائية.

لغة “السجن المعلّق” ليست توصيفًا هندسيًا، بل استعارة سلطوية تقوم على تعليق الإنسان بين الحياة والموت، بين القانون واللا قانون، في فراغٍ أخلاقي يُدار بالخوف وحده. أما “التمساح”، فليس حيوانًا في خيال بن غفير، بل رمزٌ فجّ لفلسفة الردع التي تتغذى على التوحش، وتسعى إلى إخضاع الجسد قبل كسر الإرادة، وإلى ترهيب الجماعة لا إصلاح الفرد.

هنا، لا نتحدث عن إجراء عقابي، بل عن إعلان نوايا. فحين تُستحضر الحيوانات المفترسة في خطاب رسمي، فهذا يعني أن الدولة تعترف ضمنيًا بانسحابها من فضاء القانون الدولي، وتخلّيها عن أي التزام أخلاقي أو إنساني، واستبدالها بمنطق الغابة، حيث الأقوى يلتهم الأضعف دون مساءلة.

الأخطر في هذا التصريح أنه لم يُقابل بصدمة داخلية إسرائيلية تُذكر، ولم يُواجه بإدانة دولية حازمة، ما يكشف حجم التطبيع مع التوحش داخل المنظومة السياسية والإعلامية الغربية. وكأن الأسير الفلسطيني بات خارج تعريف “الإنسان” في معايير حقوق الإنسان الانتقائية: يُعذَّب بصمت، ويُهان بتصريحات، ويُقتل معنويًا دون أن تهتز المنابر.

إن “السجن المعلّق” ليس فكرة عقابية فحسب، بل رسالة سياسية مزدوجة: تعليق القانون من جهة، وتعليق الضمير الدولي من جهة أخرى. وحين تتحول القسوة إلى خطاب رسمي، يصبح اللامعقول سياسة، وتغدو الجريمة رأيًا، ويُمنح العنف شرعية لغوية تمهّد لشرعنته الميدانية.

الأسير الفلسطيني، الذي يُراد له أن يعيش معلّقًا بين الخوف والموت، لم يكن يومًا رقمًا في سجل أمني، بل كان شاهدًا حيًا على زيف القوة. فالقوة التي تحتاج إلى التماسيح لتحمي سجونها، هي قوة خائفة في جوهرها، عاجزة عن كسر الإرادة، فتلوذ بالرعب كبديل عن العدالة.

عربيًا، لا يمكن فصل هذا التوحش عن حالة الصمت الرسمي، بل والتواطؤ غير المعلن أحيانًا. فحين تُختزل قضية الأسرى في بيانات موسمية، أو تُدفع إلى هامش الأولويات، يصبح التصريح المتوحش سياسة قابلة للتنفيذ، ويغدو الصمت شريكًا فعليًا في الجريمة، لا حيادًا عنها.

أما دوليًا، فإن المجتمع الذي يكتفي ببيانات “القلق العميق” أمام هذا الانحدار الأخلاقي، يتحول من ضامنٍ للقانون الدولي إلى شاهد زور. فالتوحش الذي لا يُواجَه، لا يتوقف عند زنزانة، بل يتمدد، ويتحول إلى نموذج حكم، وإلى سابقة خطيرة تُشرعن انتهاك الإنسان أينما كان.

الخاتمة

في المحصلة، لا يفضح تصريح “السجن المُعلّق والتمساح” وحشية بن غفير بوصفه فردًا متطرفًا فحسب، بل يكشف انزلاق دولةٍ كاملة نحو منطق الغابة، حيث تُستبدل القوانين بالمخالب، والعدالة بالرعب، والدولة بمليشيا مقنّعة بشرعية رسمية.

سياسيًا، يضع هذا التصريح إسرائيل في مواجهة مباشرة مع كل ادعاءاتها بأنها “واحة ديمقراطية”، ويمنح خصومها أخلاقيًا وقانونيًا دليل إدانة لا يحتاج إلى تفسير. عربيًا، يعيد طرح السؤال المؤلم: إلى متى يبقى الأسير الفلسطيني وحيدًا في معركته، بينما تتبدل الأولويات وتُجمَّد القضايا؟

دوليًا، لم يعد الصمت حيادًا، بل صار انحيازًا واضحًا. فالتوحش حين لا يُحاسَب، يتحول إلى سياسة، والسياسة حين تُبنى على الرعب، تنتهي إلى سقوطٍ أخلاقي مدوٍّ.

ومع ذلك، يبقى الأسير الفلسطيني هو المعادلة الأصعب على الكسر. فالإرادة التي صمدت خلف القضبان، لا تهزمها التماسيح ولا المشانق الرمزية، بل تفضح هشاشة القوة التي تواجهها.

وسيأتي يومٌ لا يُسأل فيه الأسرى عمّا صبروا،

بل يُسأل فيه العالم عمّا صمت،

وتُسأل السياسة عمّا تواطأت،

ويُعاد طرح السؤال أمام التاريخ بلا مواربة

من كان الإنسان؟

ومن كان التمساح؟