المواجهــة
نشر بتاريخ: 2025/12/29 (آخر تحديث: 2025/12/29 الساعة: 14:58)

أجلسُ وحيداً في العتمة، أَسكتُّ جميع الأصوات من حولي، أغمضتُّ عينيّ مستسلماً، بدأت أطرد كل فكرة، كل ذكرى، كل هاجس، مركّزا على شيء واحد.. العودة بالزمن، بكل بطء، والوصول إلى أبعد زمن ممكن، والغوص إلى أعمق نقطة في الذاكرة.

أنا، الآن، بمفردي، العالم من حولي يتلاشى، الأصوات تذوب في لجة الصمت الذي أخذ يعم المكان لدرجة أني صرت أسمع دقات قلبي، تخلصت من ضجيج الحاضر، طردت من مخيلتي كل الأخبار.. نسيتُ الأهل، والأصدقاء.. رويداً رويداً أعود للوراء، سنة بعد أخرى.

أنا، الآن، في غرفة واسعة، من حولي أطفال نائمون.. الساعة السادسة صباحاً، وعمري عشرة أشهر، استيقظت جائعاً.. هأنذا أزحف على بطني بكل تصميم قاصداً أمي.. أمي في المطبخ، تعدّ إبريق شاي لأبي الذي يهم بالمغادرة.. تقف أمي بصبر وثبات بانتظار وصول درجة حرارة الماء في الإبريق حد الغليان، المياه تغلي، وأمي تمسك ملعقة وتهمّ بتلقيم الشاي.. في هذه اللحظة أصلها، أهز قدميها، فترتبك، وتكاد تقع أرضاً، فإذا بالإبريق المغلي يفلت من يدها وينسكب على الأرض، وجزء منه ينسكب فوق رقبتي مباشرة.. أمي صعقتها المفاجأة، وأنا صرخت بأعلى صوتي. بكيتُ بكل ألم.. أمي تبكي على بكائي، وأنا أحزن على حزنها عليّ.. أردت الاعتذار منها لما تسببته لها من ألم وقلق وذعر.. لكني لا أجيد الكلام.. تحملني بكل خوف وحنان، تهرع لطلب المساعدة.. وأنا أواصل البكاء، ثم يُغشى عليّ من شدة الألم.

لقد كذبتُ عليكم، وعلى نفسي، فأنا لا أتذكر شيئاً من تلك القصة، هل للطفل الرضيع ذاكرة؟ إنما أتخيل القصة كما روتها لي أمي مرارا وتكرارا فيما بعد.. أصبت بحروق من الدرجة الثالثة، تركت أثرا على رقبتي ما زال حتى اليوم، لكنها لم تترك أثرا في قلبي.. فقد عوضتني أمي بمزيد من الرعاية وفيضٍ من الحب.

صار عمري أربع سنوات، أرى غرفتين ملتصقتين ببعضهما، جدرانهما من الحجارة الطينية العتيقة، أمامهما ساحة مبلطة، نسميها المصطبة، في آخرها شجرة توت باسقة نلعب في أفيائها، يهبط الليل سريعا، نأوي إلى فراشنا.. في الغرفة الأولى وهي الأصغر ينام أبي وأمي.. الغرفة الثانية مليئة بالفراش، نصطف 12 شقيقا وشقيقة، جنبا إلى جنب مثل لفائف السجائر المكدسة في عبوة صغيرة.. ستي أم العبد تتهيأ للنوم في الزاوية، تنضم إليها أمي لتحكي لنا قصة نص نصيص والشاطر حسن.

بعد شهر، سيحظى شقيقنا الأصغر ثائر بهدية عبارة عن سيارة بلاستيكية حمراء، ربما كانت تلك أول لعبة تدخل بيتنا، آخذُ محمود جانباً، وأخبره إن لم يسمح لنا بمشاركته اللعبة، سننتظر حتى ينام ثم نستولي عليها، سندفنها تحت التوتة حتى ينساها.

أدخلُ الصف الأول ابتدائي في مدرسة الوكالة في صويلح، مئات الطلبة يتراكضون بصخب في ساحة صغيرة، جميعهم حليقو الرؤوس «عَ الصفر»، ملابسهم رثة، بعضهم يلتهم ساندويش زيت وزعتر والآخرون ينظرون إليهم بتحسر.. هذا المنظر يختلف كليا عن مشهد الأطفال الذي ألفته في الروضة التي التحقت بها قبل سنة، روضة صغيرة ملحقة بكنيسة «قلب مريم الطاهر»، المعروفة بكنيسة «البلد» في الفحيص.. ساحتها أنيقة ونظيفة، في آخرها غرفة صغيرة تشبه القبو، مقفلة على الدوام، علمنا من المس «شمعة» أنها غرفة الفيران، وهي مخصصة لمن يسيء الأدب.

بعد أسبوع، السابعة صباحاً، أُمسكُ بيد شقيقي محمود ونهمُّ بعبور الشارع الذي يفصلنا عن المدرسة، نلمح سيارة مسرعة قادمة من البعيد، تقترب منا بأسرع مما قدّرنا، نتوقف بحذر وخوف.

على مقربة منا بمسافة عشرين مترا، يقف ثلاثة أطفال من صفنا، لم يروا تلك السيارة فصدمتهم بكل قسوة وعنف، حتى قذفتهم أمامنا مباشرة، رأيتهم يتلوون من شدة الألم لكنهم لا يبكون.. فقد كان الموت أسرع منهم.

أنا، الآن، في الصف الثالث، الأستاذ عبد الرحمن يتوعد كل من لا يحفظ جدول الضرب بفلقة على مؤخرته.. في الصف الخامس، الأستاذ عطية يفسر لنا سورة الجن، ولما سألته مستغرباً: «عنجد!» رمقني بنظرة غضب.

صرتُ عريفا للصف السادس، سجلت أسماء ثلاثة من أصدقائي في قائمة المشاغبين، يدخل الأستاذ فوزي غاضبا ويعاقبهم بعشر عصي لكل واحد، يعودون لمقاعدهم وهم يفركون أياديهم من شدة الوجع، يحدقون نحوي بغضب، وهمهماتهم تقول: والله لأورجيك.. إلا أربّيك.. يا فسّاد.. استنانا عالترويحة..

أحمد، ونبيل، لا يكفان عن ملاحقتي ومضايقتي، يطاردانني بالتعليقات السخيفة وأحيانا بشتائم نابية.. وأنا عاجز عن الرد.. طوال العطلة الصيفية وأنا أتعرض لتنمرهما في منامي.. يجافيني النوم وأنا أخطط للانتقام.. في اليوم الأول من بدء العام الدراسي الجديد، قدِم نبيل نحوي ضاحكا مستهزئا، وما أن صار قبالتي مباشرة حتى هويت على وجهه بلكمة قوية، تبعتها بالثانية فوقع أرضاً، ما زلت أتخيل نظرة الخوف والاستغراب التي علت وجهه.. في حين صمت صديقه أحمد كما لو أصابه الخرس.. انسحبا يجران أذيال الخيبة..

أعود مرة ثانية إلى بيتنا القديم في الفحيص، 15 فردا نعيش معاً تحت سقف واحد، 11 منهم أكبر مني وبالتأكيد أقوى.. نتسابق على صحن الفول المجروش، نتزاحم على الحمّام، ننتظر أن يمرض أحدنا لنحظى بكعك القرشلة.. أو أن يعود أبي بكيلو موز أو حبات برتقال، كانت أمي توزعها علينا بالتساوي وتخبئ الباقي، وكنا نستغل أي فرصة لسرقة ما تيسر منها..

كان أبي جادا وصارما، كنت أظنه أقوى شخص في العالم، .. بعد أحداث أيلول المؤسفة، غاب عن البيت نحو شهر، وسادت أجواء من القلق والذعر، إلى أن توقف جيب عسكري أمام البيت وترجّل منه عسكريان وأخذا يسندان أبي للوقوف، أدخلاه إلى الساحة ثم انصرفا، تعاونت أمي مع أشقائي على إيصاله لفراشه، كان صامتا، تبدو عليه آثار التعذيب، كدمات ورضوض وكسور.

مع ذلك، لم تهتز صورته في ذهني، كنت أخشاه، ولا أتجرأ على عصيانه، أو مجادلته.. وفي الأوقات القليلة التي كنت أحظى بها بجلسة معه، كان دائم النصح، لا يكف عن إعطاء التوجيهات والإرشادات.. أول مرة تجرأت أن أدخن أمامه بعد خروجي من السجن.