نشر بتاريخ: 2025/12/15 ( آخر تحديث: 2025/12/15 الساعة: 15:04 )
عبد المجيد سويلم

المرحلة الجديدة في ضوء تطوّرات الإقليم

نشر بتاريخ: 2025/12/15 (آخر تحديث: 2025/12/15 الساعة: 15:04)

أشرنا في المقالين السابقين إلى أن من علائم المرحلة الجديدة، ومن خصائصها ومميزّاتها، المدى الذي سيتأثّر فيه الإقليم جرّاء المتغيّرات الدولية وسرعة وتائرها. والحقيقة أن هذه الدرجة من التأثير، وهذا المدى، جوهر الموضوع، وهو الخاصية التي ينفرد بها الإقليم. يعود السبب في ذلك إلى عدة اعتبارات فارقة عن باقي الأقاليم على المستوى الكوني العام.

لا يوجد في الواقع، وعلى مدى العالم كلّه، صراع ممتدّ كما هو الصراع في إقليم الشرق الأوسط، وذلك بالنظر إلى طبيعته ومصيره، والقدر الهائل من تعقيداته، وحجم المصالح التي ينطوي عليها، ودرجة تداخل وتنافر وتناقض هذه المصالح بالذات بين مختلف الأطراف المشاركة والمتورّطة فيه، والطامعة في ثرواته، والطامحة للاستثمار فيه والاستفادة من مزاياه.

المفتاح المنهاجي الأوّل في فهم أهمية الإقليم - كما أرى - هو تحوّل المصالح الغربية فيه من مصالح عامة وكبيرة تتعلّق بالموقع والممرّات ما قبل قيام المشروع الصهيوني إلى مصالح تتعلّق بسلعة النفط بعد الاكتشافات النفطية الأولى منذ قرابة قرن ونصف القرن من الزمان.

وبحيث تحوّلت المصالح من دائرة الطرق والممرّات التجارية إلى المصدر الأول لأهمّ سلعة في الصناعات الغربية، ما «استدعى» التفكير الجدّي والمباشر للبدء في مرحلة جديدة من «التأمين الإستراتيجي» لها من خلال السيطرة المباشرة على مفاصل الإقليم عسكرياً، ومن خلال المشروع الصهيوني لكي يكون الأداة الضاربة في يد هذه المصالح، ولكي يتحوّل إلى العامل الأوّل في سيطرة «الغرب» على كامل الإقليم.

لا يتّسع المجال هنا لاستعراض الحملات العسكرية على المشرق كلّه، وحتى على المغرب العربي في الشمال الإفريقي، لكن الوقائع كلها تثبت، وبما لا يدع المجال للشكّ أن المشروع الصهيوني قد «نضج» مباشرة بُعيد الاكتشافات النفطية، ودخل إلى جدول أعمال «الغرب» كـ»ضرورة» حيوية وبصورة مختلفة تماماً عن كافة «التصوّرات» التي أُشير لها في التفكير الإستراتيجي الغربي قبل ذلك، والتي كتب عنها في القرن الثامن عشر.

وما إن ورث الاستعمار الغربي «التركة» العثمانية حتى بمخطّطات التقسيم والتهشيم وإعداد الإستراتيجيات التنفيذية للسيطرة، وإعادة السيطرة على الإقليم، بدأ وهنا بالذات المشروع التنفيذي لهذه السيطرة من خلال «وعد بلفور»، واتفاقية «سايكس - بيكو»، وخلق الكيانات العربية و»الإسلامية» التي تحفظ وتحافظ على هذه المصالح، ومن ضمنها المصالح المباشرة لقيام وتأسيس الدولة الصهيونية.

أطلنا قليلاً بهذا التمهيد لأنه من خلاله فقط، ومن خلاله تحديداً، يمكن أن نستقرئ الحالة الإقليمية في معالم وعلائم المرحلة الجديدة.

شهد الإقليم تطوّرات كبيرة بعد قيام دولة الاحتلال، لكن الإجماع الغربي على دور المشروع الصهيوني بقي في حالة إجماع كاملة، ولم تكن نتائج «ثورة الضبّاط الأحرار» في مصر 1952 سوى الإرهاصات الأولى، والأصحّ أن نقول الأولية في بدء انشقاق الاتحاد السوفياتي، أو انفصاله عن هذا الإجماع، ثم تعزّز الانفصال بعد العدوان الثلاثي البريطاني الفرنسي الإسرائيلي على مصر 1956، وتم عقد صفقة السلاح مع تشيكوسلوفاكيا ثم البدء بمشروع السدّ العالي. وحتى الصين بدأت في ستّينيات القرن الماضي بالانفتاح على فصائل العمل الوطني، خاصة «فتح»، وحصل افتراق كبير بين الشرق والغرب بعد عدوان حزيران 1967.

كانت اتفاقيات «كامب ديفيد» نقطة تحوّل كبرى - كنتيجة غير منطقية لـ»حرب أكتوبر» 1973 - من حيث أن الولايات المتحدة الأميركية أخرجت الصراع من محيطه الدولي، وحصرته في دورها الأهم، ثم في دورها الأوحد بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وتفرّدت في «فرض» منطقها على كامل الإقليم.

هنا بدأت عملية متناقضة من التجاذب والاستقطاب، فقد «رفض» العرب «كامب ديفيد» ثم عادوا عن رفضهم واشترطوا «الأرض مقابل السلام»، لكن أميركا دعمت الرفض الإسرائيلي لهذه المعادلة، ودعمت الموقف الإسرائيلي عندما تنصّلت دولة الاحتلال من «اتفاقية أوسلو» على كل علّاته، وعلى كل ما انطوى عليه من «تآكل» في المشروع الوطني، ثم دعمت الموقف الإسرائيلي في «السيطرة» على القدس، وشطب حق العودة، ومطاردة وكالة الغوث لتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، وفي حرب الإبادة الجماعية والتجويعية، وحتى أدقّ تفاصيل المواقف الإسرائيلية في «شرم الشيخ» وقرار مجلس الأمن الأخير 2803، وبقيت التعارضات بين دولة الاحتلال وأميركا محصورة في الاعتبارات الهامشية حتى الآن.

مقابل «المحور العربي» الذي «تقبّل» جوهر «كامب ديفيد»، ثم «تجرّع» مقولة «السلام مقابل السلام» من خلال «السلام الإبراهيمي» والذي جرى من خلاله تجاوز شرط إنهاء الاحتلال، تطوّر في الإقليم المحور الآخر، والذي تمثّل في رفض إيران للتساوق مع المخطّطات العربية، وبقيت سورية تحاول الحفاظ على نظامها السياسي رغم كثافة الهجمات الغربية عليها بعد أن جاء «الربيع العربي» الذي ركب موجته «الغرب» كلّه للإطاحة بكل من ليبيا وقبله العراق.

بقيت إيران وحدها في مواجهة حلف كامل، ولم تتعدّل الأمور نسبياً إلّا بعد صمود اليمن في مواجهة حرب شرسة شارك فيها معظم دول الخليج العربي، وانتهت إلى فشل كبير في النيل من بقاء جماعة «أنصار الله» «الحوثيّين» اليمنية على سدّة الحكم في صنعاء، وفشلت فشلاً ذريعاً تجربة الكيان السياسي في الجنوب اليمني، وحتى أن محاولة إخضاع السودان لمنطق «التطبيع المجّاني» مع دولة الاحتلال قد انتهت إلى حرب دامية ما زال السودان يدفع ثمنها غالياً.

المهمّ هنا أنه لا مقارنة بين قوة «محور أميركا» ودولة الاحتلال، وبين «المحور الإيراني» ولا على أيّ صعيد، خصوصاً أن العالم العربي كان يدعم ضمناً، وأحياناً صراحةً وعلانيةً «المحور الأميركي»، وقد جاء «طوفان الأقصى» في خضمّ هذا الواقع.

تعرّض المحور الجديد لضربات قاتلة، وخسر «حزب الله» اللبناني كل قيادته السياسية والميدانية عملياً، وخسر أكبر خسارة في تاريخه كلّه، ولكنه استطاع في ظروف هي أقرب إلى المستحيلة أن يمنع دولة الاحتلال من تحقيق نصر حقيقي، وهو اليوم كما هو واضح يعدّ نفسه للمواجهة القادمة في مؤشّر لا يقبل الجدل على أن الفشل الصهيوني كان فاضحاً، وأن حساب دولة الاحتلال في الجولة القادمة ما زال مفتوحاً. وحتى الحرب على إيران فإنها قد فشلت، وأعادت الأخيرة كل ترسانتها الصاروخية إلى واجهة المشهد، واستطاعت في وقت قياسي أن تعيد ما كان قد تدمّر بالكامل من قواتها على صعيد الدفاع الجوّي. ولم تتمكّن لا أميركا ولا دولة الاحتلال من «لجم» «الحوثيّين» على الإطلاق، وعلى العكس بلعت أميركا «ريقها» للتغطية على هزيمتها وخوفها من استمرار القتال ضد الجماعة، وتبعتها دولة الاحتلال في نفس هذا النهج وفشل مخطّط إخضاعها إلى غير رجعة.

أما حركة «حماس» فرغم كل ما أصابها، وما قدمته من تضحيات، فما زالت في منتصف المشهد والصورة، وما زالت الرقم الأصعب في مخطّطات إخضاع القطاع.

باختصار الوضع الإقليمي الذي نتج عن حرب السنتين لم يسفر عن نتائج حقيقية لمعادلات جديدة سوى معادلة واحدة، وهي أن «الغرب» لم يعد قادراً على الذهاب إلى حرب مصيرية جديدة، لأن دولة الاحتلال فشلت في حسم الصراع، ولأن دورها أصبح مقلّصاً إلى حدّ كبير، وباتت في موضع الخلاف الكبير بين كل مكوّنات «الإجماع» الغربي على هذا الدور.

«العرب» ربّما يكونون قد بدؤوا بقراءة المشهد بطريقة جديدة، ليس من موقع الانتقال بمواقفهم، وإنّما من موقع التفكير بأن الفشل الأميركي والإسرائيلي قد يعطيهم فرصةً لتعزيز مكانتهم، ليس خارج الصورة الأميركية وإنّما في داخلها.

وهناك مؤشّرات جديدة على الانتقال، خصوصاً «التموضع» في «البريكس»، وتحسين اتفاقيات التعاون الأمني، وبدء التأثير على المعادلة السياسية في الإدارة الأميركية الذي ما زال رمزياً وشكلياً، لكنه مع ذلك يعكس عمق أزمة السيطرة والهيمنة الأميركية، وعمق تراجع الدور الوظيفي لدولة الاحتلال.

هذا المتغيّر مهما كان يبدو «جنينياً» في هذه المرحلة، فهو في الواقع تغيّر كبير ستزداد أهميته ودوره ومكانته وتأثيره مع اشتداد الأزمات «الغربية» بدءاً من أميركا، ومروراً بدولة الاحتلال، وانتهاءً بالمواقف الأوروبية.

الإقليم يقف على أبواب مرحلة ليست في مصلحة دولة الاحتلال.